الأحد، 7 يوليو 2013

سكة حديد


   لطالما لقبتني والدتي بالـ(الملاحظ القوي)،ولم يكن هذا اللقب مجرد لغو من الكلام؛فلقد نشأت وأنا أحب التدقيق والملاحظة حتى انعكس ذلك على حياتي وصرت مراقبـًا لحركة القطارات في محطة قطار مدينتي المحلية الصغيرة..أراقب القادم والراحل..هذا الفتى الذي لا يترك كتابه يستقل القطار يوميـًا ليذهب إلى جامعته في العاصمة،أراهن أن ضوضاء العاصمة تبهره وتخيفه في نفس الوقت لذلك يهرب إلى الكتاب الذي في يده لا يدعه حتى في أثناء انتظاره للقطار.هذا الرجل سريع الخطى،لابد أنه رجل مهم أو يدعي أنه كذلك ..يعدل من وضع رابطة عنقه كل دقيقة وينظر في ساعته ثم يغرق في محادثة تليفونية تأكل معظم وقته حتى يصعد إلى عربة القطار ولكن دعنا منه ولننظر لهذه الشابة المليحة.. بالتأكيد تنتظر حبيبـًا قادمـًا من بعيد أو ربما ستعجل هي بالذهاب إليه،إن الحب مجنون لا يدع لك فرصة للتفكير السليم،لكم وددت لو جربت جنون الحب..حياتي كانت عبارة عن محطات واضحة ومحددة..من الدراسة إلى العمل إلى الزواج،لا توجد فرصة للخروج عن النص،لا توجد فرصة لشطط الحياة اليافعة وتهور الشباب.

  هل من شيء غريب لاحظته طوال فترة عملي ؟! بالطبع،للناس عادات وتقاليد في أسفارهم تختلف ولكنني مازلت أتذكر بعد هذا العمر الطويل ذلك الصبي الصغير الذي كان يأتي ويجلس إلى مقعد من مقاعد الانتظار في المحطة..من أول النهار وحتى آخر الليل،يجلس بلا كلل ولاملل،لا يصدر ضجيجـًا ولا يبكي،يـُخيل إليّ إنه ليس من جنس البشر،فهو لا يتألم ولا يجوع ولا يشرب ولا يقوم من مجلسه أبدًا..يبدو كتمثال من تماثيل اسكندرية جالسـًا مراقبـًا لحركة القطارات بهدوء وشجاعة.
تساءلت ذات يوم عن حاله فأجابني البعض هامسـًا بأنه فقد والدته في مأساة انقلاب قطار ..مأساة من المآسي الكثيرة حولنا ولكننا كثيرًا ما نتعاطف ونبكي ونشفق ونتبرع ثم ننشغل بأمورنا اليومية وننسى أو نتناسى .. ونتركهم خلفنا جرحى ثكالى ولا نتساءل عن أحوالهم حتى !
لم ييأس الصبي من القدوم إلى المحطة منتظرًا أن تظهر والدته من باب إحدى العربات وظللت أتابعه لعدة أسابيع ثم فقدت اهتمامي به ونسيته..أو تناسيت أمره.

   وهأنذا أمر على المحطة بعد عشرين سنة بعدما أنهيت خدمتي بها وصرت عجوزًا لا يقدر على السير دون عصاته،لأراه واقفـًا..شابـًا طويلاً وسيمـًا قوي البنية وعلى كتفه طفلة صغيرة،تتساءلون كيف عرفته !؟ .. لقد كانت في عينيه نفس تلك النظرات الشجاعة الهادئة..نظرات تماثيل اسكندرية..حينها تجرأت لأول مرة بعدما قررت أن أتخلى عن دور (الملاحظ) واقتربت منه ولمست كتفه بحنان فالتفت إليّ في هدوء وسألته هامسـًا : لماذا مازلت تقف هنا ؟!
فأجابني بهدوء يغلب عليه طابع الأسى :لقد فقدت زوجتي الحبيبة في قطار آخر يا عم..ألست مـَن كان يتابعني يوميـًا عندما كنت صغيرًا آتي إلى هنا لانتظار والدتي ؟!
أومأت برأسي موافقـًا وتطلعت إليه بعينين حزينتين وساد الصمت لحظات ثم مال الشاب على رأس ابنته وقبلها ثم التفت إليّ: نحن ذاهبان إلى الميدان،هل تأتي؟! 
نظرت إليه مدهوشـًا وقلت:ولكن ..نحن بلدة صغيرة ولا أحد سيلتفت إلينا هنا ! الإعلام كله مركز في العاصمة يا بني..
فقال الشاب بنبرة مؤلمة: يا أبتي،لقد فقدت والدتي وأنا في سن صغيرة وكنت لا أرى للحياة فائدة حينها ثم حاولت النهوض من كبوتي ونجحت واستمررت في الحياة،وتعلمت وعملت وأحببت وتزوجت وأنجبت ثم فقدت حبيبتي في حادثة قطار أخرى وكانت الحياة مسدودة أمامي حينها ثم تذكرت ابنتي هذه وكيف لا يمكن أن أدعها وحيدة في هذا العالم ،فحاولت الحياة وجاءت الثورة لتنجح محاولتي،فهل تريد مني ألا أحاول أن تنجح ثورتي؟ يا أبتي،ما عليّ سوى المحاولة..هذا ما أنشده وهذا ما سأدركه.
صمتُّ قليلاً وتأملت كلماته جيدًا ثم أمسكت بيده قائلاً : هيا بنا..تبـًا لما يظنه العالم،المهم ما نظنه نحن..!
واتجهنا مع الصغيرة صوب الميدان وأنا أشعر بشيء جديد قد دخل حياتي..لقد قمت بخطوة خارج النص أخيرًا !


تمت . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق